27 August 2008

حوار مع صديقي الحالم 3


أصلحوا تلك السفينة ... قبل أن يأتي الطوفان

قلت لصديقي الحالم: إن المثالية التي تنشدها لا يمكن تحقيقها علي أرض الواقع يا صديقي، فكما أن هناك أناس ينشدون الإصلاح والكمال والمثالية، هناك أيضا أناس ينشدون الفساد والفوضى والعشوائية، ودائما ستجد تلك الحرب الدائرة بين المثالية والعشوائية منذ قديم الزمان ...

ألا تذكر قوم لوط حينما قالوا لبعضهم البعض .. "اخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم اناس يتطهرون"
[1].. أنظر لماذا يبغضوهم ولماذا ينكروهم .. لأنهم أرادوا فقط ان يتطهروا ويتخلصوا من الخبائث .. فدائما أبدا سيظل هناك من يريدها مرتع للعشوائية والفجور...

وانظر ايضا عندما قال قوم نوح لبعضهم البعض ... "وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً"
[2]... وبالرغم من ان تلك الآلهه كانت سبباً في ضلالهم .. إلا أنهم أبدا لم يكفوا عن هذا الضلال .. ويريدون ان يستمروا فيه ويصروا عليه .. وينكرون أي دعوة لإخراجهم من دائرة "الظلمات" إلي دائرة "النور"...

ارتسمت علي وجه صديقي ابتسامه سخرية وكأنه يقول لي: بل تنشأ الفوضى والعشوائية بسبب السلبية التي تتمتع بها أنت وأمثالك ، لكنه لم يصرح بهذا...

وقال لي: إذاً لماذا لا أسعى أنا لهذا التغيير ، فلو ان الجميع فكر بنفس الأسلوب ما كان هناك إصلاح أبدا ... فلذلك قررت أن أذهب مع هؤلاء الناس الذين ينادون بالإصلاح وسأركب معهم تلك السفينة التي سنعبر بها إلي "المثالية والكمال" كما فعل نبي الله نوح بمن آمن معه واستوى بسفينته علي جبل "الجودى" بعد أن اهلك الطوفان أهل الكفر والضلال ...

أشفقت عليه وقلت له: يا صديقي لقد صنع نبي الله نوح تلك السفينة بوحي من الله وبعد أن أمضي عمره في قومه منادياً ومبشراً ونذيراًّ ولم يستجيب له إلا قليل ... فهل يمكن لك ولمن معك أن يغيروا ما أفسده المفسدون ... وهل يمكن لكم ان تقيموا تلك المدينة المزعومة .. التي لا يوجد بها إلا كل معاني الحب والخيروالجمال .. دون ان يكون هناك أغراض أو أطماع أو صراعات ؟؟؟!!! ...

وهل سيفسح لكم أبليس وجنوده المجال لإعلاء رايه الإصلاح ، وكان قد اتخذ علي نفسه العهد بغواية جنس بني البشر ؟؟!!!

قال لي صديقي الحالم متحمساً: نعم .. نعم .. لقد سمعت كثيرا عن هؤلاء الناس وعن سفينتهم التي يزعمون بناءها وقد أذاعوا داخل البلدة انهم علي وشك البدء في إنشاء تلك السفينة وأنهم سيبحرون بها عبر بحر الفساد ليصلوا بها إلي شاطيء "المدينة الفاضلة" ، ولقد لحق بهم الكثيرون ممن ينشدون الكمال مثلي ... ولن يجد أبليس وجنوده مكان بين هؤلاء الناس ... وسأذهب معهم أنا أيضاً لكي أحاول .. وإن لم أنجح فليكفيني شرف المحاولة كما يقولون... إني أرى هؤلاء الناس مثل "وجه القمر" المضيء الذي يكون سبباً في هداية البشر في ظلمات البر والبحر ...

قلت له بصوت يملؤه القلق: لن أقف في طريقك يا صديقي ولكنى أخشى عليك وعلي من معك من هؤلاء الناس الذين ينشدون الفوضى والفساد .. واخشى أن يتسلل بينكم من يفرق بينكم ويتسبب في إغراق السفينة قبل إبحارها ...

قال لي صديقي وهو يهم بالإنصراف: فقط أطلب منك دعواتك وأمنياتك ، ولكم تمنيت ان تأتي معي لنعيش سوياً في تلك "المدينة الفاضلة" بعيدا عن الفساد والظلم والقهر .. فأنت تستحق الأفضل..

قلت له بصوت يملؤه الحسره: لا .. لن أترك مكاني .. وسأحاول أن لا أكون سلبيا كما تصفني وسأحاول أن أصلح من نفسي أولاً .. فمن يدري فقد يأتي الطوفان ويهلك الجميع .. وحينها لن ينفعني إلا إيماني ويقيني... إذهب يا صديقي وسأبقي انا هنا أنتظر مصيري المحتوم .. وقد قيل "إذا ما هاجر كل الشرفاء فمن سيبقي في وطننا"
[3] ... بالطبع سيبقي غير الشرفاء .... إذهب أنت وليحفظك الله..أما أنا فسأبقي هنا لعلي أجد لنفسي مكان بين من بقي من الشرفاء ... أتمني لك التوفيق...
**********
غاب صديقي لفترة من الوقت ولكنه كان دائم الإتصال بي ليطلعني علي أخباره وأخبار من معه ممن يدعون الإصلاح والكمال ..
وفي كل مرة من مرات الإتصال أجده منطلقا سعيدا بما يراه من هؤلاء الناس ...
وكيف أنهم يحبون بعضهم البعض...
وكيف أنه وجد نفسه بين هؤلاء الناس...
وكيف أنهم استطاعوا ان ينشأوا بسفينتهم نموذجا مصغرا لتلك المدينة التي يسعون للوصول إليها وأنهم بدأو في تطبيق قواعد المثالية والكمال علي تلك السفينة منذ أول يوم كتحضير للمجتمع الذي سيعيشون فيه في تلك "المدينة الفاضلة" ..
وكيف أنهم اتفقوا وتعاهدوا علي أن لا يكون بينهم ولا منهم من يفسد عليهم سعادتهم بحياتهم الجديدة ...
وكيف أنه وجد نفسه بينهم وكأنه وسط أهله وأخوته بعيدا عن الأطماع والأحقاد التي عصفت بالبلده منذ زمن بعيد وتحولت البلده إلي هذا المستنقع المليء بالطفيليات والحشرات .. ولكن ما أسعده الآن وقد وجد نفسه في داخل الجنة التي وجدت علي الأرض...
وكيف ... وكيف ... وكيف ...

لم أعهد صديقي يتكلم بهذا الحماس من قبل ... فلقد كان سعيدا منطلقاً ، بالغاً بسعادته عنان السماء ...
أما أنا فلقد كان كلامه يثير داخلي الشكوك حول ما كنت أعتقده من قبل وجعلني أتسائل كثيرا ...
هل يمكن فعلا ان يتحقق "حلم الكمال والمثالية" علي هذه الأرض ..
هل يمكن فعلا أن اكون مخطئا فيما أعتقدت من قبل حول إرادة هؤلاء الناس الذين يدعون الإصلاح وانهم استطاعوا فعلا ان يقميموا حصناً في وجه المفسدون المغرضون فلم يستطع إبليس وجنوده أن يخترقوا هذا الحصن ...
يبدو لي وكأني بدأت أقتنع بمبدأ صديقي ويبدو لي أني سألحق به لأجد لنفسي مكانا بين هؤلاء الناس علي تلك السفينة ....
أيام كثيرة كنت أفكر في حال صديقي وفي سعادته ... وكنت أفكر أيضا في إمكانية اللحاق به وكيفية الترتيب لهذا الأمر ... ولكن ...
**********
جائني صديقي في يوم من الأيام تظهر عليه آثار الإعياء والإحباط واليأس ... وبمجرد أن وقف أمامي وجدته سقط مغشياً عليه وكأنه كان يجاهد نفسه للوصول إلي هنا ...

وقبل أن يسقط نظر لي نظره يملؤها الحزن والأسى ... أصابني الفزع من هول هذا الموقف ولم يكن في تفكيري حينها أي شيء سوى إسعاف صديقي وإعادته إلي وعيه ...

حملت صديقي بين ذراعي وهرولت في شوراع البلده صارخا وباكيا ومناديا ...

أغيثوني ... أغيثوني ...

يا إلهي سأفقد صديقي بين ذراعي ولا أستطيع أن أفعل له شيء ...

استمريت في الهرولة والصراخ ولكن لم يجيبني أحد ... يالوقاحة تلك البلده ... إني اكره هذا المكان .. وتمنيت أن لو يأتي الله بالطوفان فيدمر تلك البلده وهؤلاء القوم وينشأ بعدها قوم آخرين ...

بعد أن تعبت من الجري في شوارع تلك البلده توقفت عن الحركه ووضعت صديقي علي الأرض ورفعته إلي صدري محاولا أن أعيد إليه وعيه وأنا أبكي بكاءا شديدا...

ومر أمامي شريط الذكريات الذي كان يجمعني بصديقي .. وكيف كنا نعيش سويا لحظات الفرح ولحظات الحزن .. وكيف كان كلا منا سنداً للآخر .. كيف تخيلنا سوياً شكل الحياه في تلك "المدينة الفاضلة"... حتى جاء ذلك اليوم الذي افترقنا فيه وذهب ناشداً الكمال ليحقق ما تخيلناه من قبل علي أرض الواقع ....

كل هذا مر بخاطري وأنا أحاول جاهدا أن أجعله يفيق ويتحدث إلي ... وبعد لحظات قليلة وانا منهمك في البكاء والصراخ .. وجدت صديقي وقد أفاق قليلا .. وقال لي بصوت خافت .. لا تبكي ...

قلت له : ماذا حدث يا صديقي .. وما الذي جري لك ... وجعلك تصل إلي تلك الحالة المزرية ...

قال لي بصوت خافت : إنها الصراعات التي عصفت بالسفينة قبل أن تبحر ... لقد كنت محقاً .. فلقد استطاع الحاقدين التسلل بينا وأفسدوا ما اتفقنا علي إنجاحه ...

قلت له: وإين دعاة الإصلاح ورعاة المثالية ... ألم يقفوا في وجه تلك الصراعات ويعيدوا الأمور إلي نصابها؟؟ ...

قال لي وكأنه يتذكر ما كان يحدث في تلك السفينة: إن تلك السفينة لم تكن نموذجاً مصغراً لتلك "المدينة الفاضلة" .. بل إنها حقاً إمتداداً لتلك "المدينة الفاجرة" ... بها ما بتلك المدينة من أحقاد وصراعات وشر ولم يستطيع أحد أن يقف أمام تلك الموجات العاتية من الحقد والشر ....

لم يكن "وجه القمر" المضيء الذي رأيته منذ البداية معبرا بما يكفي عن حقيقة سطح ذلك القمر المليء بالفوهات والأحقاف ... لقد خدعني "وجه القمر" ...

والآن لم يعد عندي أمل بتغيير ذلك الوضع بيدي أو بأيدي الناس ... فلابد لتلك البلده من نبي ليعيدهم إلي رشدهم .. ولأن هذا النبي أبداً لن يأتي ... فسوف يأتي أمر الله بهلاك تلك البلده كما هلكت السفينة ... وتلا صديقي بصوت خافت ... "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون"
[4]... وسكت صديقي عن الكلام وتوقفت أنفاسه وانا أبكي بكاءا شديدا ... وأصرخ ...

يا ويلي ... لقد مات صديقي .... مات وهو ينشد الإصلاح ... ولكنه لم يجده .. عسى أن يجده في دار أخرى غير تلك الدار .. وأرض أخرى غير تلك الأرض ... فإن ما عند الله خير وأبقي .... وليرحمك الله يا صديقي ...

"تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين"
[5]

ولتتسع الأرض الآن لدعاة الفساد بعد أن رحل عنها من كان مخلصاً لا يريد إلا الإصلاح ما استطاع ... وليتحقق وعد الله بأن تقوم القيامة علي أشر الخلق...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
سورة النمل ، الآية (56).
[2] سورة نوح، الآيه (23).
[3] من كتاب "وجوه بلا رتوش" للكاتبة الصحفية "مني رجب".
[4] سورة هود، الآية (117).
[5] سورة القصص، الآية (83).

علي عبد المنعم
أبو ظبي – الإمارات 22-05-2008

04 August 2008

صديقتي وسجائري


واصل تدخينكَ .. يغريني
رجلٌ .. في لحظة تدخينِ
ما أشهى تبغكَ .. والدنيا
تستقبلُ أوّل تشرينِ
والقهوةُ .. والصحفُ الكسلى
ورؤىً .. وحطامُ فناجينِ
دخّنْ .. لا أروعَ من رجلٍ
يفنى في الركن .. ويُفنيني
رجلٌ .. تنضَمُّ أصابعهُ
وتُفكّر .. من غير جبينِ
أشعل واحدةً .. من أخرى
أشعلها من جمر عُيوني
ورمادك ضعه على كفّي
نيرانكَ ليست تؤذيني
فأنا كامرأةٍ ..يُرضيني
أن أُلقيَ نفسي في مقعد
ساعاتٍ في هذا المعبدْ
أتأمّلُ في الوجه المُجْهَد
وأعُدُّ .. أعدُّ .. عروق اليدْ
فعروق يديك .. تسليني
وخيوط الشيب .. هنا .. وهنا
تنهي أعصابي .. تنهيني
دخّنْ .. لا أروعَ من رجلٍ
يَفْنَى في الركن .. ويُفنيني
احرقني .. إحرقْ بي بيتي
وتَصَرّفْ فيه كمجنونِ
فأنا كامرأةٍ .. يكفيني
أن أشعُرَ .. أنك تحميني
أن أشعرَ أن هناكَ يداً
تتسللّ من خلف المقعد
كي تمسح رأسي وجبيني
تتسلّلُ من خلف المقعدْ
لتداعب أذني بسكونِ
ولتترك في شعري الأسود
عِقداً من زهر الليمونِ
دخِّنْ .. لا أروعَ من رجلٍ
يفنى في الركن .. ويُفنيني
نزار قباني